الأية رقم (118 : 119)
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }
قال الإمام أحمد، عن عبيد اللّه بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع اللّه بينهم وبين عدوهم على غير معاد، ولقد شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر. وكان خبري حين تخلفت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، واللّه ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - . قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من اللّه عزّ وجلّ؛ وغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصعر، فتجهز إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أنجز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره اللّه عزّ وجلّ، ولم يذكرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: (ما فعل كعب بن مالك)؟ فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول اللّه برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت، واللّه يا رسول اللّه ما علمنا عنه إلا خيراً. فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أظل قادماً راح عني الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه. فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علانيتهم، ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى اللّه تعالى، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: (تعال)، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: (ما خلفك، ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟) فقلت: يا رسول اللّه إني لو جلست عند غيرك
من الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن اللّه أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من اللّه عزّ وجلّ؛ واللّه ما كان لي عذر، واللّه ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أما هذا فصدق، فقم حتى يقضي اللّه فيك) فقمت، وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا: واللّه ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: واللّه ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أُمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي؛ قال: ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. ثم ذكر تتمة الحديث
"أخرجه الشيخان وأحمد، وله تتمة طويلة في توبة اللّه عزَّ وجلَّ عليه يرجع إليها في الصحيحين".
قال وأنزل اللّه تعالى: {لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين}. ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي مع سعتها، فسدت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر اللّه واستكانوا لأمر اللّه، وثبتوا حتى فرج اللّه عنهم بسبب صدقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تخلفهم، وإنه كان عن غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب اللّه عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم، ولهذا قال( {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين} أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين}، وقال الحسن البصري: إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهذ في الدنيا والكف عن أهل الملة.
الأية رقم (120)
{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولاينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }
يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر، لأنهم {لا يصيبهم ظمأ} وهو العطش {ولا نصب} وهو التعب {ولا مخمصة} وهي المجاعة {ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار} أي ينزلوا منزلاً يرهب عدوهم، {ولا ينالون} منه ظفراً وغلبة عليه، {إلا كتب لهم} بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً، {إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين} كقوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}.
">الأية رقم (121)">
الأية رقم (
121)
{ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون }
يقول تعالى ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل اللّه {نفقة صغيرة ولا كبيرة} أي قليلاً ولا كثيراً، {ولا يقطعون واديا} أي في السير إلى الأعداء، {إلا كتب لهم}، ولم يقل ههنا به لأن هذه أفعال صادرة عنهم، ولهذا قال: {وليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون}، وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللّه عنه من هذه الآية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم؛ وذلك أنه أفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة، كما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان رضي اللّه عنه: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال: ثم حث، فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان بن عفان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال: فرأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها، )ما على عثمان ما عمل بعد هذا) وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان رضي اللّه عنه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى اللّه عليه وسلم جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي صلى اللّه عليه وسلم، فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم) يرددها مراراً، وقال قتادة في قوله تعالى: {ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم} الآية، ما ازداد قوم في سبيل اللّه بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من اللّه.
الأية رقم (122)
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }
هذا بيان من اللّه تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، عن ابن عباس في الآية: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}، يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى اللّه عليه وسلم وحده: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يعني عصبة، يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقالوا: إن اللّه قد أنزل على نبيكم قرآناً، وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل اللّه على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله: {ليتفقهوا في الدين} يقول: ليعلموا ما أنزل اللّه على نبيهم، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم {لعلهم يحذرون}. وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفاً، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال لهم الناس: ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا، فوجدوا من أنفسهم من ذلك تحرجاً، واقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال اللّه عز وجل: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يبغون الخير {ليتفقهوا في الدين} وليستمعوا إلى ما أنزل اللّه، {ولينذروا قومهم} الناس كلهم {إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، وقال الضحاك: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار، وكان إذا أقام وأرسل السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه، وكان الرجل إذا غزا فنزل بعده قرآن وتلاه نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن اللّه أنزل بعدكم على نبيه قرآناً فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}، يقول: إذا أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يعني ذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعاً، ونبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعد، ولكن إذا قعد نبي اللّه فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس. وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية: {ألا تنفروا يعذبكم عذابا أليما}، {وما كان لأهل المدينة} الآية، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو والذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقونهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
الأية رقم (123)
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين }
أمر اللّه تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح اللّه عليه مكة والمدينة والطائف وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين اللّه أفواجاً شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام. ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية صلوات اللّه وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوماً، فاختاره اللّه لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وخليفته أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، فأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفُرس عبدة النيران، ففتح اللّه ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل اللّه، كما أخبر بذلك رسول اللّه، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق عمر بن الخطاب، رضي اللّه عنه، فأرغم اللّه به أنوف الكفرة الملحدين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، ثم لما مات أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه شهيد الدار، فكسى الإسلام حلة سابغة، وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة اللّه البالغة فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وعلت كلمة اللّه وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفة من أعداء اللّه غاية مآربها، وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار امتثالاً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}.
وقوله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} أي وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً بأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}، وقوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}، وقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم}، وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أنا الضحوك القتال) يعين أنه ضحوك في وجه وليه، قتال لهامة عدوه. وقوله: {واعلموا أن اللّه مع المتقين} أي قاتلوا الكفار، وتوكلوا على اللّه، واعلموا أن اللّه معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه، وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة اللّه تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في البلاد، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
الأية رقم (124 : 125)
{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }
يقول تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة} فمن المنافقين {من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} أي يقول بعضهم لبعض، وفي الآية الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء، {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} أي زادتهم شكاً إلى شكهم وريباً إلى ريبهم، كما قال تعالى: {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى}، وهذه من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سبباً لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالاً ونقصاً.
">الأية رقم (126 : 127)">
الأية رقم (
126 : 127)
{ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون . وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون }
يقول تعالى: أولا يرى هؤلاء المنافقون، {أنهم يفتنون} أي يختبرون، {في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} أي لا يتوبون عن ذنوبهم السالفة، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم. قال مجاهد: يختبرون بالسنة والجوع، وقال قتادة بالغزو في السنة مرة أو مرتين، وقوله: {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض} هذا أيضاً إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {نظر بعضهم إلى بعض} أي تلفتوا {هل يراكم من أحد ثم انصرفوا} أي تولوا عن الحق وانصرفوا عنه، وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه كقوله تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة}، وقوله: {ثم انصرفوا صرف اللّه قلوبهم}، كقوله: {فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم}، قوله: {بأنهم قوم لا يفقهون} أي لا يفهمون عن اللّه خطابه، ولا يتصدون لفهمه ولا يريدونه، بل هم في شغل عنه ونفور منه، فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه.
الأية رقم (128 : 129)
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم }
يقول تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم}، وقال تعالى: {لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم}، وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} أي منكم وبلغتكم، وقوله تعالى: {عزيز عليه ما عنتم} أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها اللّه تعالى عليه، {حريص عليكم} أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب) "أخرجه الإمام أحمد". وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم فأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني؟ فقالوا: بلى، فقال: فإن بين أيديكم رياضاً هي أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة: صدق واللّه لنتبعنَّه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه "رواه أحمد". وقوله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} كقوله: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} {فإن تولوا} أي تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة، {فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو} أي اللّه كافي، لا إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}،
{وهو رب العرش العظيم} أي هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب العرش العظيم وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش، مقهورون بقدرة اللّه تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، وقد روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي اللّه، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات إلا كفاه اللّه ما أهمه.